في آخر ما طرحناه في مقالتنا السابقة, عرضنا إلى المعيار الذاتي الذي يتحكم هو الآخر بقرار “أي” حارس بوابة حول معلومة ما, وقلنا انه المعيار الذي يشمل مستوى حارس البوابة التعليمي, وتوجهاته الفكرية, وميوله, وانتماءاته, وجماعاته المرجعية, وسماته الشخصية كالنوع (امرأة أو رجل), والعمر, والدخل, والطبقة الاجتماعية, والإحساس بالذات أو الثقة بالنفس, والذوق وغيرها كثير. وقلنا أنه إذا كان كل ما سبق والذي يندرج تحت عنوان المعيار الذاتي لابد وأن يتحكم بقرار حارس البوابة, فأين هي الحال عندما يحصل رجل الدين ¯ كحارس لبوابة الدين- على معلومة تخالف مصلحته في أحد ما سبق? هل سيحرص على وصول المعلومة للناس كما هي? أم سيغيرها لتتماشى ولو قليلا مع مرجعيته? أم سيمنعها عن الوصول أصلا?
وصرحنا أن كل من يدعوالناس إلى عدم التساؤل يخاف, وأكثر ما يخاف منه هوالوقوع في هاوية الغلط, وبخاصة الأخطاء التي تلتحف بالدين حتى وإن كانت أخطاء أخلاقية بديهية, لكنها تحسب من الدين وتحسب عليه, وهنا يتخذ حارس البوابة إحدى الطرق التالية في إجابته عن سؤالك, أولها: أن لا يقر سؤالك في المقام الأول, ويدعوك إلى الاستغفار, وكأنه من المفترض عليك أن تنزلق من رحم أمك وأنت مدرك عن يقين ومسلم عن قناعة بكل ما سيلقى على كتفيك وفي أذنيك من تكليف, وثانيها: أن يجيبك جواب غير الفاهم لسؤالك وغير الناجح في إشباع حاجتك, فيترك فيك رغم إصرارك على المعرفة, فجوة لم تبعدك عن السؤال بقدر ما أبعدتك عن المسؤول, فيظهر لك النقاش معه ومن مثله خال إلا من عقم, وثالثها: أن يهم المسؤول فرحا لإجابتك جواب المتيقن, وتهم أنت فرحا بضمير يتوق إلى المعرفة لتجده يلقي عليك ما حفظ من قرآن وحديث فتتساءل من جديد “ألم أسأله للتو عن معنى القرآن في هذا وهدف الحديث في ذاك?!” فتشك في نفسك وفيه.
الأمثلة على فشل حراس بوابة الدين معي شخصيا كثيرة, تدرجت معي وتدحرجت ¯ للأسف- في فترات طويلة من عمري غير الطويل, وبدأت معي منذ كنت طفلة تؤمر بأن تمتنع عن الغناء في حضرة الطعام على الطاولة, بينما كان من المناسب لهم أن تغني بفرح في مطبخ, وفي حضرة الطعام, ولم يزل في القدور, ولم يجب على ذلك أحد جوابا مقنعا له أسباب منطقية, كما لم يجب أحد وأنا أصغر من ذلك عن سبب دفعي الدائم الى قلب كل أنواع الأحذية على وجهها حتى وإن كنت أهم بالفوز في مباراة, أو كنت في خضم الانغماس باللعب, أوكنت في مشاجرة جادة, أوفي صحبة نعاس مطبق, فكنت دائما مجبرة على قلب كل شكل من أشكال النعال التي تجدني في طريقها, فأقلبها على وجهها مخافة أن تواجه السماء.
الطرح الساذج نفسه يواجه به الشباب حتى اليوم, ذلك الشباب الذي يمتلئ رأسه بمطر من الأسئلة في كل يوم من عمره, فيطلب منه ببساطة أن يمسك بمظلة الدين ويحتمي بها, فلا يبتل ولا يصيبه برد, وذلك لأن الوسيلة الاولى لزيادة الخضوع والتربية على التأييد هو”التطبيع” أوالتنشئة الاجتماعية للصغار بحيث يستوعبوا تقاليد أهليهم ومجتمعهم عن طريق الاستيعاب التدريجي من دون إعطائهم تعليمات مباشرة, ويعني هذا من الناحية الاجتماعية أن يتم تطبيع الصغار من الشباب والشابات عن طريق تعريفهم بأسلوب العيش وتفاصيل الدور المطلوب منهم رويدا رويدا. في حين كان من الأجدر أن يشجع هؤلاء الشباب والشابات على أن يعروا رؤوسهم للمطر من دون خوف, فتتشرب رؤوسهم الأسئلة, فيبحثون فيها ولا يتركون منها واحدا من دون جواب ما داموا أحياء, فلا مات من سأل, ولكن مات من خاف أن يسأل.
h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة

قم بكتابة اول تعليق